الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)
أَحَدُهَا: أَنّهُ سُبْحَانَهُ اسْتَثْنَى أَنْفُسَهُمْ مِنْ الشّهَدَاءِ وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُتّصِلٌ قَطْعًا وَلِهَذَا جَاءَ مَرْفُوعًا. وَالثّانِي: أَنّهُ صَرّحَ بِأَنّ الْتِعَانَهُمْ شَهَادَةٌ ثُمّ زَادَ سُبْحَانَهُ هَذَا بَيَانًا فَقَالَ: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللّهِ إِنّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} وَالثّالِثُ أَنّهُ جَعَلَهُ بَدَلًا مِنْ الشّهُودِ وَقَائِمًا مَقَامَهُمْ عِنْد عَدَمِهِمْ. قَالُوا: وَقَدْ رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَا لِعَانَ بَيْنَ مَمْلُوكَيْنِ وَلَا كَافِرَيْنِ ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرّ فِي التّمْهِيدِ. وَذَكَرَ الدّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيثِهِ أَيْضًا عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ مَرْفُوعًا: أَرْبَعَةٌ لَيْسَ بَيْنَهُمْ لِعَانٌ لَيْسَ بَيْنَ الْحُرّ وَالْأَمَةِ لِعَانٌ وَلَيْسَ بَيْنَ الْحُرّةِ وَالْعَبْدِ لِعَانٌ وَلَيْسَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْيَهُودِيّةِ لِعَانٌ وَلَيْسَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ والنصرانية لِعَان وَذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ فِي مُصَنّفِهِ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ مِنْ وَصِيّةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِعَتّابِ بْنِ أَسِيدٍ: أَنْ لَا لِعَانَ بَيْنَ أَرْبَعٍ فَذَكَرَ مَعْنَاهُ. قَالُوا: وَلِأَنّ اللّعَانَ جُعِلَ بَدَلَ الشّهَادَةِ وَقَائِمًا مَقَامَهَا عِنْدَ عَدَمِهَا فَلَا يَصِحّ إلّا مِمّنْ تَصِحّ مِنْهُ وَلِهَذَا تُحَدّ الْمَرْأَةُ بِلِعَانِ الزّوْجِ وَنُكُولِهَا تَنْزِيلًا لِلِعَانِهِ مَنْزِلَةَ أَرْبَعَةِ شُهُودٍ. قَالُوا: وَأَمّا الْحَدِيثُ لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ الْأَيْمَانِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْن فَالْمَحْفُوظُ فِيهِ لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللّهِ هَذَا لَفْظُ البخاري في صَحِيحِهِ. وَأَمّا قَوْلُهُ لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ الْأَيْمَانِ فَمِنْ رِوَايَةِ عَبّادِ بْنِ مَنْصُورٍ وَقَدْ تَكَلّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ. قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ عَلِيّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْجُنَيْدِ الرّازِيّ: مَتْرُوكٌ قَدَرِيّ. وَقَالَ النّسَائِيّ: ضَعِيفٌ. وَقَدْ اسْتَقَرّتْ قَاعِدَةُ الشّرِيعَةِ أَنّ الْبَيّنَةَ عَلَى الْمُدّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدّعَى عَلَيْهِ وَالزّوْجُ هَاهُنَا مُدّعٍ فَلِعَانُهُ شَهَادَةٌ وَلَوْ كَانَ يَمِينًا لَمْ تُشْرَعْ فِي جَانِبِهِ. قَالَ الْأَوّلُونَ أَمّا تَسْمِيَتُهُ شَهَادَةً فَلِقَوْلِ الْمُلْتَعِنِ فِي يَمِينِهِ أَشْهَدُ بِاَللّهِ فَسُمّيَ بِذَلِكَ شَهَادَةً وَإِنْ كَانَ يَمِينًا اعْتِبَارًا بِلَفْظِهَا. قَالُوا: وَكَيْفَ وَهُوَ مُصَرّحٌ فِيهِ وَجَوَابِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَشْهَدُ بِاَللّهِ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ بِذَلِكَ سَوَاءٌ نَوَى الْيَمِينَ أَوْ أَطْلَقَ وَالْعَرَبُ تَعُدّ ذَلِكَ يَمِينًا فِي لُغَتِهَا وَاسْتِعْمَالِهَا. قَالَ قَيْسٌ: وَفِي هَذَا حُجّةٌ لِمَنْ قَالَ إنّ قَوْلَهُ أَشْهَدُ تَنْعَقِدُ بِهِ الْيَمِينُ وَلَوْ لَمْ يَقُلْ بِاَللّهِ كَمَا هُوَ إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. وَالثّانِيَةُ لَا يَكُونُ يَمِينًا إلّا بِالنّيّةِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. كَمَا أَنّ قَوْلَهُ أَشْهَدُ بِاَللّهِ يَمِينٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ بِمُطْلَقِهِ. قَالُوا: وَأَمّا اسْتِثْنَاؤُهُ سُبْحَانَهُ أَنْفُسَهُمْ مِنْ الشّهَدَاءِ فَيُقَالُ أَوّلًا: إلّا هَاهُنَا: صِفَةٌ بِمَعْنَى غَيْرِ وَالْمَعْنَى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ غَيْرَ أَنْفُسِهِمْ فَإِنّ غَيْرَ وَإِلّا يَتَعَاوَضَانِ الْوَصْفِيّةَ وَالِاسْتِثْنَاءَ فَيُسْتَثْنَى بغَيْرَ حَمْلًا عَلَى إلّا وَيُوصَفُ بإلّا حَمْلًا عَلَى غَيْرَ. وَيُقَالُ ثَانِيًا: إنّ أَنْفُسَهُمْ مُسْتَثْنًى مِنْ الشّهَدَاءِ وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا عَلَى لُغَةِ بَنِي تَمِيمٍ فَإِنّهُمْ يُبَدّلُونَ فِي الِانْقِطَاعِ كَمَا يُبَدّلُ أَهْلُ الْحِجَازِ وَهُمْ فِي الِاتّصَالِ. وَيُقَالُ ثَالِثًا: إنّمَا اسْتَثْنَى أَنْفُسَهُمْ مِنْ الشّهَدَاءِ لِأَنّهُ نَزّلَهُمْ مَنْزِلَتَهُمْ فِي قَبُولِ قَوْلِهِمْ وَهَذَا قَوِيّ جِدّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرْجُمُ الْمَرْأَةَ بِالْتِعَانِ الزّوْجِ إذَا نَكَلَتْ وَهُوَ الصّحِيحُ كَمَا يَأْتِي تَقْرِيرُهُ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى. وَالصّحِيحُ أَنّ لِعَانَهُمْ يَجْمَعُ الْوَصْفَيْنِ الْيَمِينَ وَالشّهَادَةَ فَهُوَ شَهَادَةٌ مُؤَكّدَةٌ بِالْقَسَمِ وَالتّكْرَارِ وَيَمِينٌ مُغَلّظَةٌ بِلَفْظِ الشّهَادَةِ وَالتّكْرَارِ لِاقْتِضَاءِ الْحَالِ تَأْكِيدَ الْأَمْرِ وَلِهَذَا اُعْتُبِرَ فِيهِ مِنْ التّأْكِيدِ عَشَرَةُ أَنْوَاعٍ.
الثّانِي: ذِكْرُ الْقَسَمِ بِأَحَدِ أَسْمَاءِ الرّبّ سُبْحَانَهُ وَأَجْمَعِهَا لِمَعَانِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَهُوَ اسْمُ اللّهِ جَلّ ذِكْرُهُ. الثّالِثُ تَأْكِيدُ الْجَوَابِ بِمَا يُؤَكّدُ بِهِ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ مِنْ إنّ وَاللّامِ وَإِتْيَانِهِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ الّذِي هُوَ صَادِقٌ وَكَاذِبٌ دُونَ الْفِعْلِ الّذِي هُوَ صَدَقَ وَكَذَبَ. الرّابِعُ تَكْرَارُ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرّاتٍ. الْخَامِسُ دُعَاؤُهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْخَامِسَةِ بِلَعْنَةِ اللّهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ. السّادِسُ إخْبَارُهُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ أَنّهَا الْمُوجِبَةُ لِعَذَابِ اللّهِ وَأَنّ عَذَابَ الدّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ. السّابِعُ جَعْلُ لِعَانِهِ مُقْتَضٍ لِحُصُولِ الْعَذَابِ عَلَيْهَا وَهُوَ إمّا الْحَدّ أَوْ الْحَبْسُ وَجَعْلُ لِعَانِهَا دَارِئًا لِلْعَذَابِ عَنْهَا. الثّامِنُ أَنّ هَذَا اللّعَانَ يُوجِبُ الْعَذَابَ عَلَى أَحَدِهِمَا إمّا فِي الدّنْيَا وَإِمّا فِي الْآخِرَةِ. التّاسِعُ التّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَخَرَابُ بَيْتِهَا وَكَسْرِهَا بِالْفِرَاقِ. الْعَاشِرُ تَأْبِيدُ تِلْكَ الْفُرْقَةِ وَدَوَامُ التّحْرِيمِ بَيْنَهُمَا فَلَمّا كَانَ شَأْنُ هَذَا اللّعَانِ هَذَا الشّأْنَ جُعِلَ يَمِينًا مَقْرُونًا بِالشّهَادَةِ وَشَهَادَةً مَقْرُونَةً بِالْيَمِينِ وَجُعِلَ الْمُلْتَعِنُ لِقَبُولِ قَوْلِهِ كَالشّاهِدِ فَإِنْ نَكَلَتْ الْمَرْأَةُ مَضَتْ شَهَادَتُهُ وَحُدّتْ وَأَفَادَتْ شَهَادَتُهُ وَيَمِينُهُ شَيْئَيْنِ سُقُوطُ الْحَدّ عَنْهُ وَوُجُوبُهُ عَلَيْهَا. وَإِنْ الْتَعَنَتْ الْمَرْأَةُ وَعَارَضَتْ لِعَانَهُ بِلِعَانِ آخَرَ مِنْهَا أَفَادَ لِعَانُهُ سُقُوطَ الْحَدّ عَنْهُ دُونَ وُجُوبِهِ عَلَيْهَا فَكَانَ شَهَادَةً وَيَمِينًا بِالنّسْبَةِ إلَيْهِ دُونَهَا لِأَنّهُ إنْ كَانَ يَمِينًا مَحْضَةً فَهِيَ لَا تُحَدّ بِمُجَرّدِ حَلِفِهِ وَإِنْ كَانَ شَهَادَةً فَلَا تُحَدّ بِمُجَرّدِ شَهَادَتِهِ عَلَيْهَا وَحَدّهِ. فَإِذَا انْضَمّ إلَى ذَلِكَ نُكُولُهَا قَوِيَ جَانِبُ الشّهَادَةِ وَالْيَمِينِ فِي حَقّهِ بِتَأَكّدِهِ وَنُكُولِهَا فَكَانَ دَلِيلًا ظَاهِرًا عَلَى صِدْقِهِ فَأَسْقَطَ الْحَدّ عَنْهُ وَأَوْجَبَهُ عَلَيْهَا وَهَذَا أَحْسَنُ مَا يَكُونُ مِنْ الْحُكْمِ وَمَنْ أَحْسَنُ يُوقِنُونَ وَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا أَنّهُ يَمِينٌ فِيهَا مَعْنَى الشّهَادَةِ وَشَهَادَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْيَمِينِ. وَأَمّا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ فَمَا أَبْيَنَ دِلَالَتِهِ لَوْ كَانَ صَحِيحًا بِوُصُولِهِ إلَى عَمْرٍو وَلَكِنْ فِي طَرِيقِهِ إلَى عَمْرٍو مَهَالِكُ وَمَفَاوِزُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرّ: لَيْسَ دُونَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ مَنْ يُحْتَجّ بِهِ. وَأَمّا حَدِيثُهُ الْآخَرُ الّذِي رَوَاهُ الدّارَقُطْنِيّ فَعَلَى طَرِيقِ الْحَدِيثِ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْوَقّاصِيّ وَهُوَ مَتْرُوكٌ بِإِجْمَاعِهِمْ فَالطّرِيقُ بِهِ مَقْطُوعَةٌ. وَأَمّا حَدِيثُ عَبْدِ الرّزّاقِ فَمَرَاسِيلُ الزّهْرِيّ عِنْدَهُمْ ضَعِيفَةٌ لَا يُحْتَجّ بِهَا وَعَتّابُ بْنُ أَسِيدٍ كَانَ عَامِلًا لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى مَكّةَ وَلَمْ يَكُنْ بِمَكّةَ يَهُودِيّ وَلَا نَصْرَانِيّ الْبَتّةَ حَتّى يُوصِيَهُ أَنْ لَا يُلَاعِنَ بَيْنَهُمَا. قَالُوا: وَأَمّا رَدّكُمْ لِقَوْلِهِ لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ الْأَيْمَانِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ وَهُوَ حَدِيثٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ وَإِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ وَأَمّا تَعَلّقُكُمْ فِيهِ عَلَى عَبّادِ بْنِ مَنْصُورٍ فَأَكْثَرُ مَا عِيبَ عَلَيْهِ أَنّهُ قَدَرِيّ دَاعِيَةٌ إلَى الْقَدَرِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ رَدّ حَدِيثِهِ فَفِي الصّحِيحِ الِاحْتِجَاجُ بِجَمَاعَةِ مِنْ الْقَدَرِيّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالشّيعَةِ مِمّنْ عُلِمَ صِدْقُهُ وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ قَوْلِهِ لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللّهِ تَعَالَى وَلَوْلَا مَا مَضَى مِنْ الْأَيْمَانِ فَيَحْتَاجُ إلَى تَرْجِيحِ أَحَدِ اللّفْظَيْنِ وَتَقْدِيمِهِ عَلَى الْآخَرِ بَلْ حَكَمَ بِهِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَأَرَادَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ حُكْمِ اللّهِ الّذِي فَصَلَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ لَكَانَ لَهَا شَأْنٌ آخَرُ. قَالُوا: وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّ قَاعِدَةَ الشّرِيعَةِ اسْتَقَرّتْ عَلَى أَنّ الشّهَادَةَ فِي جَانِبِ الْمُدّعِي وَالْيَمِينَ فِي جَانِبِ الْمُدّعَى عَلَيْهِ فَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنّ الشّرِيعَةَ لَمْ تَسْتَقِرّ عَلَى هَذَا بَلْ قَدْ اسْتَقَرّتْ فِي الْقَسَامَةِ بِأَنْ يُبْدَأَ بِأَيْمَانِ الْمُدّعِينَ وَهَذَا لِقُوّةِ جَانِبِهِمْ بِاللّوْثِ وَقَاعِدَةُ الشّرِيعَةِ أَنّ الْيَمِينَ تَكُونُ مِنْ جَنَبَةِ أَقْوَى الْمُتَدَاعِيَيْنِ فَلَمّا كَانَ جَانِبُ الْمُدّعَى عَلَيْهِ قَوِيّا بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيّةِ شُرِعَتْ الْيَمِينُ فِي جَانِبِهِ فَلَمّا قَوِيَ جَانِبُ الْمُدّعِي فِي الْقَسَامَةِ بِاللّوْثِ كَانَتْ الْيَمِينُ فِي جَانِبِهِ وَكَذَلِكَ عَلَى الصّحِيحِ لَمّا قَوِيَ جَانِبُهُ بِالنّكُولِ صَارَتْ الْيَمِينُ فِي جَانِبِهِ فَيُقَالُ لَهُ احْلِفْ وَاسْتَحِقّ وَهَذَا مِنْ كَمَالِ حِكْمَةِ الشّارِعِ وَاقْتِضَائِهِ لِلْمَصَالِحِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَلَوْ شُرِعَتْ الْيَمِينُ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ دَائِمًا لَذَهَبَتْ قُوّةُ الْجَانِبِ الرّاجِحِ هَدَرًا وَحِكْمَةُ الشّارِعِ تَأْبَى ذَلِكَ فَاَلّذِي جَاءَ بِهِ هُوَ غَايَةُ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ.
أَحَدُهُمَا: أَنّ مَا فِي كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الشّبْهَةِ لَا يَزُولُ بِضَمّ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ كَشَهَادَةِ مِائَةِ فَاسِقٍ فَإِنّ احْتِمَالَ نُكُولِهَا لِفَرْطِ حَيَائِهَا وَهَيْبَةِ ذَلِكَ الْمَقَامِ وَالْجَمْعِ وَشِدّةِ الْخَفَرِ وَعَجْزِهَا عَنْ النّطْقِ وَعُقْلَةِ لِسَانِهَا لَا يَزُولُ بِلِعَانِ الزّوْجِ وَلَا بِنُكُولِهَا. الثّانِي: أَنّ مَا لَا يُقْضَى فِيهِ بِالْيَمِينِ الْمُفْرَدَةِ لَا يُقْضَى فِيهِ بِالْيَمِينِ مَعَ النّكُولِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ. قَالُوا: وَأَمّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ} فَالْعَذَابُ هَاهُنَا يُرَادَ بِهِ الْحَدّ وَأَنْ يُرَادَ بِهِ الْحَبْسُ وَالْعُقُوبَةُ الْمَطْلُوبَةُ فَلَا يَتَعَيّنُ إرَادَةُ الْحَدّ بِهِ فَإِنّ الدّالّ عَلَى الْمُطْلَقِ لَا يَدُلّ عَلَى الْمُقَيّدِ إلّا بِدَلِيلِ مِنْ خَارِجٍ وَأَدْنَى دَرَجَاتِ ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ فَلَا يَثْبُتُ الْحَدّ مَعَ قِيَامِهِ وَقَدْ يُرَجّحُ هَذَا بِمَا تَقَدّمَ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ وَعَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا: إنّ الْحَدّ إنّمَا يَكُونُ بِالْبَيّنَةِ أَوْ الِاعْتِرَافِ أَوْ الْحَبَلِ ثُمّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِيمَا يُصْنَعُ بِهَا إذَا لَمْ تُلَاعِنْ فَقَالَ أَحْمَدُ: إذَا أَبَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تَلْتَعِنَ بَعْدَ الْتِعَانِ الرّجُلِ أَجْبَرْتُهَا عَلَيْهِ وَهِبْتُ أَنْ أَحْكُمَ عَلَيْهَا بِالرّجْمِ لِأَنّهَا لَوْ أَقَرّتْ بِلِسَانِهَا لَمْ أَرْجُمْهَا إذَا رَجَعَتْ فَكَيْفَ إذَا أَبَتْ اللّعَانَ؟ وَعَنْهُ رَحِمَهُ اللّهُ تَعَالَى رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ يُخَلّى سَبِيلُهَا اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ لِأَنّهَا لَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَدّ فَيَجِبُ تَخْلِيَةُ سَبِيلِهَا كَمَا لَوْ لَمْ تَكْمُلْ الْبَيّنَةُ.
|